الدرس الافتتاحي لسنة 2014/2015 حول مهام علم النفس بالمغرب "القضايا الكبرى"



كلمة الأستاذ محمد التويجري

          الأستاذ الدكتور عبد الرحيم عمران أحد المؤسسين الأوائل للدراسات السيكولوجية في المغرب و المعروف لديكم من خلال احتكاكه الدائم بكم. و هو كما يعرف الجميع أستاذ ومؤطر وباحث يقوم بمهامه على أحسن وجه و بكفاءة علمية و منهجية متميزة يشهد له بها الجميع .و هو شيء يشرفنا جميعا: طلبة و أساتذة و شعبة و كلية .
        و قبل أن يشرع في إلقاء درسه الافتتاحي هذا ليبين لنا مدى أهمية علم النفس و دوره في تطوير وتنمية المجتمع، فإنه لا محالة و كما عهدته في مداخلاته العلمية، سيمدنا برؤية و مقاربة علمية متميزة. وقبل أن أعطي الكلمة إلى الأستاذ عبد الرحيم عمران، فإنني أعطي الكلمة إلى الأستاذ المصطفى حدية، وكما تعلمون أن الأستاذ المصطفى حدية هو كذلك أحد المؤسسين الأوائل للدراسات السيكولوجية في المغرب وهو معروف بأبحاثه الميدانية سواء كمؤطر أو كباحث.
كلمة الأستاذ المصطفى حدية:
        بسم الله الرحمن الرحيم، يسرني كثيرا أن أحضر لهذا اللقاء العلمي الجميل والذي نتشرف بحضور طلبتنا وزملاءنا الأساتذة بمختلف التخصصات. الأستاذ عبد الرحيم عمران الذي سيلقي لنا هذا الدرس الافتتاحي، لابد أن أذكر بحقيقة أقولها بصدق وبكل حجج علمية دامغة، أن الأستاذ عبد الرحيم عمران هو أول من نشر في قسم علم النفس هو والأستاذ محمد التويجري، في بداية الثمانينات أحد المقالات المهمة والمهمة جدا،تخص وضعية الأمراض النفسية بالمغرب في مجلة أقلام، التي كان يشرف عليها الأستاذ إبراهيم بوعلو. و كما تعرفون كذلك فله أبحاث أخرى مهمة لها أهميتها الكبرى خلال مراحل تطور علم النفس بالمغرب في جوانب متعددة.كما له أبحاث نشرها في كتابيه القيمين عندما كان في كلية الآداب بفاس. وهذين الكتابين رجعت إليهما واشتغلت عليهما في آخر منشور أصدرته. حقيقة أخرى سأظيفها. و هي الغيرة الكبيرة التي نراها عليه مع طلبتنا في مسلك علم النفس، وهذه سمة يعرفها عنه الطلبة جيدا، حيث يأخذهم طالبا طالبا على مستوى التكوين والتأطير و بحماس قل نظيره ؛وهذا شيء يثلج الصدر. بالإضافة إلى نضالاته الجامعية و النقابية الكبيرة بغيرة وبحب.و هذا أمر يذهلنا بصراحة و ما أحوجنا لمثل هذه الأخلاقيات. وما أحوجنا لبلورة وتطوير علم النفس على مستوى المغرب، وعلى مستوى العالم العربي.فعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس الإكلينيكي على مستوى كلية الآداب بالرباط هو حاضر بمختلف التخصصات و الأبحاث و المنشورات.                و في فاس كذلك على مستوى علم النفس المعرفي واللغوي، حاضر بقوة. فنحن حاضرون في إطار العديد من المنابر في علم النفس، نذكر منها الجمعية المغربية لعلم النفس وكذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي نحاول أن نبرز دور علم النفس في المغرب. كما لا يفوتني أن أخبركم بأننا لن نترك أي مناسبة تمر دون أن نرفع من شأن هذا التخصص ونعطيه قيمته. لذلك سوف نجعل من السنين المقبلة سنين خصبة إنشاء اله. سواء فيما يخص الإنتاج العلمي أو فيما يخص الأخذ بيد طلبتنا ليكونوا خير خلف بالنسبة لنا.و سوف لن ندع هذه الأمنية إلا بعد أن نجعل من طلبة الدكتوراه باحثين بامتياز في هذا المجال وأتمنى للأستاذ عبد الرحيم التوفيق في درسه الافتتاحي هذا وشكرا واسمحولي إن كنت قد أطلت عليكم.
كلمة الأستاذ عبد الرحيم عمران
           شكرا، بكل مشاعر الصداقة والمحبة لكل من الصديق الأستاذ محمد التويجري والصديق الأستاذ المصطفى حدية. بطبيعة الحال، كل ما قيل في حقي من كلمات التقدير والثناء سأتحفظ عليها تواضعا باستثناء مرجعية وحيدة، وهي أنني أكبرهم سنا فقط. وكبر السن في علم النفس له صفتان إما صفة الشيخوخة،وإما صفة الحكامة، أو هما معا. كما لا يفوتني في بداية هذا الدرس الافتتاحي، أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لأصدقائي الأساتذة الذين لبوا الطلب وشرفوني بحضورهم معي هنا. وبطبيعة الحال حضورهم هذا هو تشريف للجامعة المغربية، وتشريف لهذه الكلية، لأنني عندما أعود بذاكرتي الجامعية منذ السبعينيات إلى الآن أستحضر بأن كلية الآداب والعلوم الإنسانية كانت دائما كلية رائدة على الصعيد الوطني، رائدة بأساتذتها وطلبتها ورائدة بطروحاتها، ورائدة بمنتوجها العلمي، بمفهوم التقدم المعرفي و المجتمعي. فكانت قضاياها الفكرية والعلمية مرتبطة دائما بقضايا المجتمع الشاغلة. وهو ما جعل من طروحاتها ومن مؤلفاتها، وكتاباتها، طروحات وكتابات ومؤلفات تصب في القضايا الكبرى للمجتمع المغربي. وبطبيعة الحال إذا كنا نعتز اليوم بما أنتجته هذه الكلية وما أنتجته مواردها البشرية في علم الاجتماع و الأنتروبولوجيا والفلسفة وعلم النفس، فهذا يعود كذلك إلى هذا التوجه الذي أعتبره نضالي في الظروف التي عملنا فيها ومازلنا كأساتذة باحثين شغوفين بالبحث العلمي الجامعي، باعتبار الجامعة هي المؤسسة المجتمعية المسؤولة على إنتاج المعرفة العلمية أولا و باعتبارها التنظيم (organisation) المجتمعي الساهر على تأهيل وتكوين الموارد البشرية الطلابية في أعلى مستوياتها وكفاءاتها. لماذا هذا المدخل؟ لأنني قلت مرارا وتكرارا لطلبتي بأن ما يحز في نفسي، هو ما أعاينه أحيانا لدى العديد من الطلبة من مواقف اللامبالاة وعدم الاكتراث، بنزعة اكتئابية أحيانا ،وغيرها من المواصفات السيكولوجية السلبية الفاعلة بحدة وراء ظاهرة الهدر الجامعي وقلة الحافزية وغياب المشروع الجامعي الفردي والجماعي لدى العديد منهم، مع العلم بأن ما يجمعنا جامعيا، علميا و تأهيليا، هو عكس ذلك. ولهذا أعتبر هذا الدرس الافتتاحي يندرج في هذه الرؤية والمقاربة الهادفة إلى تفعيل دينامية التشارك، والاهتمام، وتقاسم المعرفة بين الأساتذة والطلبة حول القضايا الشاغلة لنا علميا ومجتمعيا في إطار مرجعيتها الجامعية.
             وحتى لا أطيل عليكم في هذا الجانب التقديمي، سأنتقل مباشرة للتساؤل حول الرؤية المعرفية التي من خلالها سأطرح وسأقارب بها مجموعة من القضايا الكبرى الشاغلة للمجتمع المغربي، وعن دور مساهمة علم النفس بالمغرب في دراستها وإنتاج المعرفة السيكولوجية الجامعية حولها. ويبقى تساؤلي المعرفي هنا هو كيف سأقاربها ؟ بأية رؤية؟ وبأية طروحات؟ انطلاقا من مسائلتي المعرفية الإبستيمولوجية لمهام علم النفس بالمغرب ولمكانته الجامعية على مستوى البحث العلمي و التأهيلي والمهني الممارساتي؟ - ومن هنا سأبدأ مداخلتي باستحضار الوضعية الحالية لعلم النفس بالمغرب، بمرجعية Jean Piaget ودراساته الرائدة عن الطفل وكفاءاته المعرفية، فيما يخص "الكأس النصف المليء"، "و النصف الفارغ". مفضلا النظر إليه من خلال النصف المليء وبالتالي التركيز في البداية على العديد من الجوانب الايجابية التي نعاينها حاليا على مستوى علم النفس بالجامعة المغربية، تاركا الكأس النصف الفارغ إلى مناسبة أخرى. ومن هنا تأتي مسائلتي التالية حول ما هي مهام علم النفس بالمغرب؟ ما هي مكانته؟ ما هي أدواره؟ و بأية
قضايا مجتمعية شاغلة ؟
          وبالتالي هل علم النفس بالمغرب هو مجرد تخصص أكاديمي مؤسساتي، مرتبط بظروف نشأة هذا الحقل المعرفي داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، خلال بداية السبعينيات من القرن الماضي؟ أم أنه في نهاية الأمر، هو مرجعية علمية ومهنية أساسية نابعة ومرتبطة بمرجعية الإنسان المغربي وتنظيماته المجتمعية و دينامية جماعاته وأفراده، المنتظمة والفاعلة بالمحددات و النواظم السيكولوجية الأساسية للإنسان ومجتمعاته، بمرجعياتها الكونية والمحلية؟. ومن هنا وبهذه الرؤية والمقاربة المعرفية القائلة بكون علم النفس تخصص ملازم للإنسان ولمجتمعاته، تأتي مسائلتي عن ما هي خصائص ومواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي في تطوره وكذلك في تحولاته وتوازناته واختلالاته وانسجامه ومعاناته، الفردية منها والجماعية والمؤسساتية.
         بطبيعة الحال لن أطيل عليكم فيما يخص هذا المدخل الابستيمولوجي لمداخلتي هذه، لأمر مباشرة إلى طرح وجهة نظري المعرفية فيما يخص مواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي، بمؤسساته وجماعاته الأنثروبولوجية أولا مرورا إلى مواصفات سيكولوجيته السوسيولوجية كمجتمع متعدد ومتنوع ومركب المؤسسات والجماعات والعلاقات والروابط، وصولا إلى مواصفات سيكولوجيته النفسية الاجتماعية بمرجعية شخصية الفرد الفاعل، و دينامية جماعاته المتعددة والفاعلة، باستقلالية نسبية عن مؤسساته وضوابطها وأنسقتها الناظمة والمتحكمة في ظواهره المؤسساتية منها والجماعية والفردية ،و التي تمنح لعلم النفس و لتخصصاته الفرعية و لممارساته المهنية،المكانة العلمية الجامعية والمكانة المجتمعية اللائقة به .
           ومن هنا يبدأ طرحي حول مواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي الأنثربولوجي، في بنياته الأساسية وثقافته المرجعية وفي ممارساته وتعاقداته وتنشئته الاجتماعية المتجانسة النواظم والمحددات، التي ظلت ناظمة له في مؤسساته وعلاقاته وروابطه وقيمه، إلى حدود أوائل السبعينات من القرن الماضي. لننتقل بكيفية متميزة ودالة بنيويا ومؤسساتيا وتنظيميا و علائقيا، إلى مجتمع أكثر تعقيدا وتمايزا وتركيبا، متصفا بمواصفات المجتمعات السوسيولوجية، إن على مستوى المؤسسات أو على مستوى البنيات أو على مستوى التعاقدات، أو على مستوى ديناميات ظواهره المجتمعية المركبة المحددات والمواصفات و الديناميات. لننتقل لاحقا مع نهاية القرن العشرين إلى مجتمع نفسي اجتماعي النواظم والروابط والعلاقات و الفاعليات والديناميكيات، المتميز أكثر فأكثر بمواصفات مرجعية الفرد الفاعل والجماعات ذات مواصفات وتنظيمات الاستقلال والتنظيم والتدبير الذاتي، بخصوصيات سيكوسوسيولوجية "المشروع" وسيكولوجية "السعادة" والتمايز والتنوع، و سيكوسوسيولوجية التعاقد والرغبة في إثبات الذات. وهذا ما يجعلني أستحضر جامعيا وعلى مستوى محاضراتي، طروحاتي القائلة بأن المجتمع المغربي تحول اليوم، على مستوى تمثلاته و سلوكاته ومشاريعه وممارساته إلى مواصفات "المجتمع السيكولوجي"، وهو ما نعاينه اليوم من طلب قوي ومتزايد جدا على علم النفس سواء على مستوى الصحف، أو على مستوى وسائل الإعلام السمعية والبصرية أو على مستوى المؤسسات التربوية والإدارة والمقاولة، وعلى مستوى مختلف مؤسسات الدولة وجمعيات المجتمع المدني. فإلى ماذا يعود هذا الطلب المتزايد وأحيانا بنوع من الإفراط و المبالغة ؟.
           جوابي :  وهو أن المجتمع المغربي الآن يتموقع وينتظم بنيويا وتنظيماتيا، على المستوى الجماعي والفردي، ضمن نسقية ما أذهب إلى تسميته "بالمجتمع السيكولوجي"، نظرا لوفرة الطلب المتزايد على علم النفس ووفرة وتنوع الانتظارات الفردية منها والجماعية والمؤسساتية. بعد هذا الطرح وهذه الرؤية السيكولوجية لمواصفات سيكولوجية المجتمع المغربي في ارتباطها بسيكولوجية أفراده كفاعلين، وسيكولوجية جماعاته وتنظيماته، والقضايا الشاغلة على مختلف هذه المستويات، يأتي تساؤلي الإبستيمولوجي حول النظرة المعرفية التي من خلالها سأعمل على التعريف بعلم النفس وبالقضايا الكبرى الشاغلة له؟. حتى أكون واضحا معكم ، فيما يخص هذا الجانب الخاص بهوية علم النفس و بموضوعه العلمي و بممارساته المهنية،فإن علم النفس كتخصص وبحث وممارسة يظل تخصصا قائم الهوية والشرعية، ببراديغماته التنظيرية وبمناهجه وتقنياته الخاصة به، وبمؤسسات ومجموعات البحث العلمي وبممارساته التدخلية والعلاجية، سواء أكانت موجودة لدينا في المغرب أو لم تكن موجودة على أرضية الواقع والمؤسسات والممارسات.
       انطلاقا من أن علم النفس كتخصص معرفي علمي ومهني، هو مجموعة من البراديغمات النظرية والمناهج العلمية ومجموعة من التقنيات ووسائل التدخل والممارسة، سواء على مستوى الإرشاد والتوجيه أو على مستوى الوقاية والعلاج، المرتبطة بالإنتاج العلمي لمختبراته  ومجموعات بحثه وممارساته المهنية. وهذه المواصفات لهويته العلمية والمهنية تظل قائمة الشرعية  والتخصص دوليا، سواء أكان لعلم النفس بالمغرب حضورا علميا ومهنيا ومجتمعيا متميزا أم لم يكن. وبالتالي وجب علينا في النقاش الدائر حول علم النفس في المغرب ومكانته ومهامه، أن نميز بين المستويين الدولي والوطني. ومن هنا يأتي تعريفي وتقديمي لعلم النفس في هذا الدرس الافتتاحي، برؤية نسقية شمولية كما هو عليه الآن دوليا بمرجعيته العلمية والمهنية من خلال براديغماته المرجعية الأربعة. وبالتالي لن أعود بكم للتعريف بعلم النفس إلى القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين أو نهايته، فهذه ليست مقاربتي لعلم النفس وليست منهجيتي في التعريف بمواصفات موضوعه وخصوصية هويته، انطلاقا من كوني أعتبر علم النفس أكثر التخصصات والميادين المعرفية وضوحا، سواء فيما يخص موضوعه ومقارباته وممارساته، انطلاقا من أن علم النفس يتموقع اليوم بأربع مرجعيات براديغماتية أساسية لا يبتعد عنها في كل ما يبلوره وينتجه علميا ومنهجيا وتقنيا ومهنيا، ألا وهي: البراديغم المعرفي و البراديغم النفسي التحليلي و البراديغم التفاعلي -النسقي و البراديغم السلوكي.
1 - البراديغم المعرفي Le paradigme cognitiviste ، وهو براديغم ناظم لعم النفس اليوم، فيما يخص مدارسه ومناهجه وتقنياته وممارساته. والدليل على ذلك البحث والعلاج المعرفي (la recherche et la thérapie cognitiviste)

2 - لدينا كذلك البراديغم النفسي التحليلي - Le paradigme psychanalytique بنظرياته                  ومقارباته وممارساته، والتي تبتدئ بالمقاربة الوصفية التحليلية الإكلينيكية لتمتد إلى العلاج - -
النفسي التحليلي.
3 - ثم لدينا كذلك المقاربة التفاعلية النسقية - Le paradigme systémique interactionel . وهو البراديغم النفسي الاجتماعي، بمختلف نظرياته ومقارباته ومناهجه وتقنياته وممارساته،
سواء على مستوى البحث العلمي الأساسي أو البحث العلمي التدخلي أو على مستوى العلاج النفسي الاجتماعي. -
4 - ثم يبقى لدينا البراديغم التاريخي المرجعي الذي أسس لعلمية علم النفس، تنظيرا ومنهجا وهو البراديغم السلوكي Le paradigme béhavioriste .
       هذه المرجعيات البراديغماتية الأربعة، تفيدنا في ماذا؟ تفيدنا في معرفة موضوع علم النفس، والرؤى والمقاربات المعرفية التنظيرية التي من خلالها سيتموقع علم النفس بموضوعه القابل للدراسة والتحليل والفهم والتفسير والتدخل، كما فعلت من قبله السوسيولوجيا عندما أرادت تحديد موضوع دراستها العلمي بالدراسة الموضوعية للمجتمع في تنظيماته ومؤسساته، سواء مع Auguste Comte أو مع Durkheim أو مع Max Weber أو مع غيرهم، حينما جعلوا من المجتمع موضوعا للسوسيولوجيا، قابلا للدراسة العلمية السوسيولوجية.
       وهذا ما جعل من علم النفس، كما هو عليه الأمر بالنسبة للسوسيولوجيا التي حددت و عرفت موضوعها بالدراسة العلمية للمجتمع، يهتم بالدراسة العلمية "للإنسان" في أبعاده السيكولوجية الأربعة السالفة الذكر. بحيث نجد أن علم النفس قد نهج نفس المنحنى، لكي يحدد لنفسه موضوعا قابلا للدراسة العلمية. وهذا ما قامت به فعلا المدرسة السلوكية موضوعا ومنهجا، والعمل على إبعاده كلية عن كل ما هو ذاتي وما هو استبطاني وما هو حدسي؛ لتعطي لعلم النفس موضوعه العلمي المركزي باعتباره: علم دراسة "السلوك" وقولها بأهمية وأولوية "المنهج التجريبي" كمنهج مركزي لإنتاج المعرفة العلمية داخل علم النفس، بإدخالها لإشكالية السلوك إلى المختبرات وإخضاعه إلى التنظير، معتمدة في ذلك أساسا على "نظرية التعلم" من خلال وجهة نظرها المعرفية القائلة بأن أهم ما يؤسس لسيكولوجية الإنسان، هي سيكولوجية التعلم، وأخضعت بالتالي هذا الموضوع المرجعي وإشكالاته للمنهج العلمي التجريبي، وألزمت علم النفس بضرورة الاحتكام إلى مواصفات المعرفة العلمية إن على مستوى النظريات أو على مستوى المفاهيم أو على مستوى الفرضيات وعلى مستوى منهجية التحقق باعتمادها المنهج التجريبي كالمنهج الأساسي الذي يؤسس لعلمية علم النفس . يبقى تساؤلي الابستمولوجي المعرفي هنا، من خلال هذا التقديم لعلمية علم النفس، التي أسس لها البراديغم السلوكي،هو الوقوف على امتداد هذه الرؤية والمقاربة المعرفية المنهجية لبراديغم المدرسة السلوكية إلى مختلف البراديغمات الأخرى لاحقا.
     إن هذه الرؤيا وهذا المنحى الذي نهجه علم النفس، تنظيريا ومنهجيا بتحديده لموضوع علم النفس بدراسة السلوكات واعتماده منهجيا على المقاربة التحليلية التجريبية، أعطت ماذا؟ أعطتنا تنظيريا، باراديغما علميا متميزا، ألا وهو براديغم "المدرسة السلوكية" التي جعلت من "نظرية التعلم" المرجعية الأساسية لطروحاتها المعرفية ولمفاهيمها الإجرائية ولفرضياتها العامة منها والإجرائية، وجعلت من المنهج التجريبي المنهج الأساس للتحقق منها بإدخالها إلى مختبرات علم النفس التجريبي، لإنتاج المعرفة العلمية حولها ولتحويلها إلى قوانين علمية تفسيرية وتوقعية تنبؤية استشرافية.
    إن هذا المنحنى الذي ستنهجه المدرسة السلوكية، تنظيريا ومنهجا وتجريبيا، سيشكل تحولا معرفيا إبستيمولوجيا جديدا، وسيجعل علم النفس بهذه المواصفات، يتبوأ المكانة العلمية التي كان يفتقدها بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والبيولوجية آنذاك. وهو ما سينعكس إيجابا على مختلف الميادين والمجالات الأخرى لعلم النفس، وسيجعلها أكثر ثقة بنفسها، لتتموقع بدورها داخل مرجعيات ومواصفات المعرفة السيكولوجية العلمية، بعملها على صياغة براديغماتها المرجعية التنظيرية منها والمنهجية، باحتكامها إلى المقاربة التحليلية التجريبية. أي أنني أذهب إلى أن البراديغم السلوكي بالمواصفات السالفة الذكر، قام بطمأنة حقل علم النفس في شموليته، مما جعل علم النفس الاجتماعي وعلم النفس المعرفي وعلم النفس الوجداني التحليلي، أكثر ميلا إلى التنظير وإلى التحليل المنهجي، بمعارف أكثر دقة ومصداقية. بمعنى أن علم النفس السلوكي شكل إبستيمولوجيا، النموذج والقدوة المرجعية لعلمية علم النفس واستقلاليته، بحيث سنجد أن علم النفس الاجتماعي يتبع نفس النهج التنظيري والمنهجي التجريبي مع كل من Asch و K.Lewin على سبيل المثال؛ كما سنجد علم النفس المعرفي مع Jean Piaget ينهج نفس المنحنى تنظيريا ومفاهيميا وتجريبيا؛ وهو ما سنعاينه كذلك بالنسبة للدراسات والمقاربات والمناهج في علم النفس الإكلينيكي التحليلي لاحقا، و خاصة مع "نظرية التعلق" Théorie de l’attachement ودراساتها الميدانية الإكلينيكية و التجريبية مع Harlow .
مما سيجعل علم النفس في وضعية تسمح له بأن يتبنى إبستيمولوجيته الداخلية Epistémologie interne ، أولا بالنسبة للمدرسة السلوكية من خلال نظرياتها، ومفاهيمها، وطروحاتها الخاصة، وبنتاجها العلمي وبتقنياتها على مستوى التدخل والممارسة، وصولا إلى العلاج النفسي السلوكي. وهو ما سنعاينه كذلك على مستوى علم النفس المعرفي التكويني لدى J.Piaget ومدرسته النمائية التكوينية، وعلى مستوى علم النفس الاجتماعي التفاعلي النسقي لدى Kurt Lewin ،وعلى مستوى علم النفس الوجداني التحليلي عند Freud . وهذا ما سيجعل علم النفس، كحقل علمي متخصص، ينتظم بأربع براديغمات مرجعية أساسية بنفس مواصفات الدقة العلمية، إن على المستوى التنظيري أو على المستوى الافتراضي وعلى المستوى المنهجي، أو فيما يخص دقة ومصداقية إنتاجاته العلمية، أوعلى مستوى دقة و نجاعة ممارساته المهنية.
       وهو ما سيجعله يمتلك إبستيمولوجية علمية داخلية خاصة به، كحقل معرفي ومهني متميز الموضوع والطروحات والنظريات والمناهج والتقنيات والممارسات. لدراسة ماذا؟ هل لدراسة السلوكات ومحدداتها كما ذهبت إلى ذلك المدرسة السلوكية؟ أم لدراسة المحددات الأربعة السالفة الذكر، بمنظور ومقاربة إبستيمولوجية نسقية مغايرة؟ وذلك بجعلها من "الإنسان"، في أبعاده السيكولوجية الأربعة: السلوكية منها والمعرفية والعلائقية والوجدانية، الموضوع الأساس لعلم النفس وليس السلوك فقط. وهو ما سينقلنا إبستيمولوجيا من المرجعيات الجهوية لعلم النفس، إلى المرجعية الشمولية النسقية لموضوع علم النفس، باعتباره الدراسة العلمية للإنسان في أبعاده السيكولوجية الأربعة السالفة الذكر المحددة لهويته السيكولوجية والملازمة له، منذ المرحلة الجنينية المتأخرة إلى نهاية حياته.
     من هنا تساؤلي عن كيف أصبح علم النفس حاليا ي ع ر ف موضوعه؟: باعتباره الدراسة العلمية للإنسان في أبعاده السيكولوجية الأساسية. وبالعودة إلى البراديغمات المرجعية الأربعة السالفة الذكر، ندرك أن الإنسان سيكولوجيا يتم دراسته اليوم من خلال أربع رؤى ومرجعيات أساسية، ألا وهي :
1.      مرجعية ومقاربة البراديغم المعرفي، الذي ينظر إلى الإنسان سيكولوجيا، "ككائن معرفي" المرجعية والبنية والتكوين والنمو.باعتباره بعدا ملازما له بيولوجيا على مستوى الجهاز العصبي،وذهنيا معرفيا على مستوى المعالجة والفهم والتنظيم وحل المشكلات. وهو ما يبوئه مكانة متميزة من بين الكائنات الحية الأخرى، من خلال قدراته وكفاءاته و إستراتيجيته المعرفية التحليلية و الاستشرافية والتنظيمية، تجعله أكثر قدرة على حل المشكلات وتدبير المخاطر والصعوبات، والتخطيط لحياته بكيفية أكثر تنظيما وتدبيرا وحكامة. وهو ما يجعل من "المعرفية" بعدا ملازما  لسيكولوجيته وحياته الداخلية والخارجية الفردية منها والجماعية .
2.     بجانب هذا البعد المعرفي الملازم للإنسان، لدينا كذلك بعدا آخرا ملازما لسيكولوجيته المرجعية،ألا وهو البعد الوجداني المشاعري، والمتمثل في مجموع المشاعر والروابط الوجدانية وتعلقاتها و أحاسيسها، من متعة وانشراح وطمأنينة ...، ومن ألم ومعاناة ومخاوف وقلق . و هو البعد الذي سنجده حاضرا بكيفية متميزة لدى كل من نظرية التحليل النفسي في البداية، ثم لاحقا لدى نظرية التعلق La théorie d’attachement ؛ لتبين لنا بأن البعد الوجداني هو بعد ملازم لسيكولوجية الإنسان. و بالتالي عندما يكون هناك خصاص ومعاناة على هذا المستوى. نعاين ماذا؟ نعاين، وكما يبين لنا ذلك علم النفس المرضي، وجود اضطرابات واختلالات حادة على مستوى سمات الشخصية في أبعادها الوجدانية. ليس فقط على المستوى الفردي بل وكذلك في أبعادها التفاعلية والجماعية، و الذي يحيلنا على هذا المستوى إلى "البعد الوجداني المجتمعي" الجماعي منه والمؤسساتي، فيما يخص المشاعر والروابط الوجدانية المتقاسمة والناظمة لها بكيفية مشتركة ( Les sentiments partagés ) من مشاعر الانتماء، ومشاعر الهوية، ومشاعر الفرح والسعادة من ناحية، ومن مشاعر المعاناة والقلق والإحباط والكراهية والتنافر والغربة من ناحية أخرى . وهذا ما يجعل من البعد الوجداني بعدا أوليا بيولوجيا وسيكولوجيا واجتماعيا م لازما للإنسان ولشخصيته ولعلاقاته وتفاعلاته.
      من هنا ندرك أهمية علم النفس المرضي على هذا المستوى، أي فيما يخص أوضاع المعاناة والخصاص الوجداني، التي تبقى لها انعكاسات بنيوية على شخصية الإنسان وعلى سيكولوجيته الفردية منها والجماعية ،بشكل عام.
3.     بعد هذا البعد المعرفي و هذا البعد الوجداني، ما هي الأبعاد السيكولوجية الأخرى الناظمة للإنسان؟ من أهمها، البعد السيكو التفاعلي التواصلي، أي البعد النفسي الاجتماعي. باعتبار - -الإنسان كائنا اجتماعيا يتقاسم مع الآخرين مجموعة من العلاقات و الروابط والتفاعلات منذ ولادته، بل وحتى أثناء المرحلة الجنينية المتأخرة قبل ولادته.و هذا ما يجعل منه ،بهذه المواصفات، كائنا نفسيا اجتماعيا على مستوى التكوين والنمو والصيرورة .و هو ما يتم مقاربته تنظيريا و مفاهيميا ومنهجيا من خلال البراديغم النفسي الاجتماعي التفاعلي النسقي.
4.     و أخيرا يبقى لنا البعد السيكو سلوكي للإنسان، أي ما يفعله ويتعلمه و ينجزه منذ ولادته إلى نهاية-مشوار حياته ، باعتباره كائنا سلوكيا إنجازيا كما عرفته ونظرت له المدرسة السلوكية من خلال براديغمها المرجعي منذ واطسن و سكينر إلى الآن.
       من خلال هذا التقديم المركز، نستحضر أهم مستجدات المعرفة العلمية السيكولوجية و مرجعياتها الأساسية، التي من خلالها تشكل وانتظم موضوع علم النفس، أي "الإنسان" في أبعاده السيكولوجية الأربعة السالفة الذكر. دون أن ننسى فضل المدرسة السلوكية تاريخا وتأسيسا، فيما يخص علمية علم النفس من خلال حصرها لموضوعه في دراسة السلوكات، باعتمادها باراديغماتيا على نظرية التعلم، ومنهجيا على المنهج – -التجريبي، كمنهج مؤسس لعلميتها و لدقة معارفها. و من هنا يمكن اعتبار المدرسة السلوكية بالباراديغم المرجعي الذي مهد تاريخيا لعلمية الباراديغمات الأخرى: المعرفية منها والنفسية الاجتماعية والتحليلية الوجدانية.  
       وهو ما سنعاينه بالملموس مع الباراديغم المعرفي النمائي مع Jean Piaget أولا، تنظيريا وتجريبيا، باعتبار الطفل البشري كائنا معرفيا فاعلا Acteur في بناء معارفه و كفاءاته ،و على مستوى صيرورات التنظيم والتدبير الذاتي. لتتطور هذه الرؤية لاحقا إلى اعتبار الطفل معرفيا، كائن الكفاءات والقدرات والاستعدادات المعرفية منذ ولادته، على خلاف ما كان سائدا من معارف علمية ومن تمثلات حول الطفل البشري، باعتباره طفل الخصاص وعدم النضج وعدم الكفاءة وقلة الفاعلية عند ولادته. و هو ما سيجعل علم النفس المعرفي من خلال اكتشافاته العلمية اللاحقة وخاصة في السبعينيات من القرن الماضي، يقدم لنا صورة مغايرة للطفل البشري منذ ولادته ،ككائن معرفي ذو الكفاءات والاستراتيجيات و الذكاءات المتعددة، في تفاعله وتواصله مع الآخرين ومع محيطه الخارجي و موضوعاته.  
         و هو ما ستثبثه العديد من الدراسات العلمية الدقيقة و في مقدمتها دراسات Brazelton و Mountagner وغيرهما، و التي بينت جميعها بأن الطفل البشري منذ ولادته يمتلك كفاءات متعددة المرجعيات و الاستراتيجيات والذكاءات، يوظفها بكفاءة فارقية ومتباينة حسب مواصفات وخصوصيات الأفراد المتفاعلين معه. مما يجعله ،على سبيل المثال، يتفاعل مع أمه باستراتيجيات وكفاءات وإيقاعات معينة ، و يتفاعل مع أبيه بكفاءات و إيقاعات مختلفة عنها.
         جعلتنا ندرك علميا ،بأن الطفل البشري يظل كائنا معرفيا متعدد القدرات والاستراتيجيات و الذكاءات، وكائنا استشرافيا توقعيا.وهو ما أبعدنا نهائيا عن تلك النظرة السلبية للطفل و عن طروحات التبعية و المسايرة والخضوع و المواءمة ، وعن طروحات الحتمية السيكولوجية الأحادية البعد والمحددات والمواصفات. وأعطتنا كبديل ما نسميه الآن بالمواطن الفاعل Le citoyen acteur منذ الطفولة. و هو ما حرر علم النفس علميا و ابستمولوجيا من مفهوم الحتمية بالمفهوم السببي أي أن لاشيء يتغير خارج منظومة الحتمية ومحدداتها والتي تفقد الإنسان إمكانية التدخل عليها لتليينها أو لتغيير مجرياتها أو لإبطال فاعليتها عليه.
       وإذا كان علم النفس المعرفي جعلنا ندرك الطفل علميا، ككائن الكفاءات والاستراتيجيات والذكاءات المتعددة، فإن علم النفس المرضي خاصة عند نهاية الحرب العالمية الثانية،سيوجه اهتمامنا العلمي إلى، مجالات المعاناة والاضطرابات النفسية فيما يخص العديد من الفئات الاجتماعية والعمرية التي كانت موضوع هذا الخصاص الوجداني و العلائقي والاجتماعي، بسبب مخلفات ومآسي الحرب العالمية الثانية .
     وهو ما سيصاحب بطلب مجتمعي و مؤسساتي، متزايد على علم النفس، علميا و مهنيا، بالنسبة للعديد من الفئات والشرائح المجتمعية ذات الاحتياجات الخاصة، كالأطفال اليتامى والمتخلى عنهم وذوي الإعاقات الجسمية والعقلية المختلفة. و الأشخاص والجماعات ذات المعاناة النفسية المتعددة المواصفات و السمات، من جراء آفات و معاناة الحرب.
            و هذا ما جعل من باراديغم سيكولوجية ما بعد الحرب العالمية الثانية، يركز أساسا على أولويات و مظاهر و أوضاع "المعاناة النفسية" في أبعادها الفردية والجماعية والمؤسساتية والمجتمعية، باعتبار أنني أذهب، أن ما انتظم لدينا من معارف علمية سيكولوجية متخصصة ومن ممارسات مهنية، ظلت و إلى نهاية القرن العشرين، مهيكلة وموجهة علميا و مهنيا و مجتمعيا "بسيكولوجية" معاناة الحرب العالمية الثانية. و هو ما يجعلنا ندرك كيف أن علم النفس المرضي و علم النفس الإكلينيكي أخذا شرعيتهما المجتمعية والعلمية والمهنية، و كيف تبوآ مكانة الصدارة داخل حقول علم النفس إلى حدود الستينيات.
       لكن ونحن بصدد الحديث عن أسس تاريخانية علم النفس العلمي، يبقى من الأهمية بمكان أن ألج معكم هنا،باراديغما سيكولوجيا آخرا مجددا في حقول علم النفس، علميا ومنهجيا و ممارسة، ألا وهو حقل علم النفس الاجتماعي . و كما يليق لي أن أ ذكر بذلك مرارا، مع طلبة علم النفس الاجتماعي، من خلال تذكيرهم بأهمية الدراسات و الأبحاث العلمية و الممارسات التطبيقية المهنية، التي عرفها علم النفس الاجتماعي مع بداية الأربعينيات ونهاية الحرب العالمية الثانية، و أذكر منها على وجه الخصوص، أبحاث ودراسات Kurt Lewin الرائدة ومجموعته الجامعية، والتي ظلت جميعها موجهة بقضايا و انشغالات مخلفات ومآسي ظواهر الحرب العالمية الثانية، كتساؤلهم مثلا: ما العمل للتخلص تنظيماتيا وتدبيريا و علائقيا، من الأسلوب والمنهج السلطوي في ارتباطها بالمآسي التي خلفها هتلر ومنظومته السلطوية على مستوى العلاقات المجتمعية، و على مستوى الأوضاع السياسية وعلى مستوى الحياة اليومية. على اعتبار أن مثل هذه القضايا شكلت الشغل الشاغل لعلماء الاجتماع وعلماء النفس آنذاك، سواء على مستوى التساؤلات العلمية المعرفية، أو على مستوى التنظير و الرؤية و الطروحات، أو على مستوى أشكال التدخل ومناهجها وتقنياتها. إذ يبقى علينا ألا ننسى بأن علم النفس دائما كان علما تدخليا ممارسا.
        وبهذه الانشغالات المجتمعية والمؤسساتية والجماعية والفردية سنجد Kurt Lewin و مجموعته العلمية يبذلون كل ما في وسعهم لينظروا ويجددوا على مستوى أبحاث ومناهج و تقنيات علم النفس الاجتماعي، أذكر هنا على سبيل المثال نظرية المجال و نظرية دينامية الجماعة ومنهجية المقاربة التشاركية و تغيير السلوكات و قضايا أشكال الحكامة السلطوية والديمقراطية واللامعيارية، و لجوئه أساسا إلى استعمال المنهج التجريبي لإنتاج المعارف العلمية مختبريا حول هذه القضايا الشاغلة مجتمعيا، ليعمل لاحقا على بلورة مناهج و تقنيات التدخل و التكوين النفسي الاجتماعي التأهيلي على هذا المستوى.
        و هذا ما سنعاينه بالملموس في ما يخص استثمار و توظيف النتائج العلمية والمناهج التكوينية التطبيقية ل Kurt Lewin و مجموعته النفسية الاجتماعية ،على مستوى مختلف التنظيمات و أساليب حكامتها التدبيرية، سواء على مستوى الأسرة أو المدرسة أو الإدارة أو المقاولة أو الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني وغيرها.
    انطلاقا من أن أهم انشغالات Kurt Lewin المجتمعية العلمية آنذاك، هو كيفية إنتاج معرفة علمية متحقق من مصداقيتها وتحويلها لاحقا إلى مناهج وتقنيات تكوينية تأهيلية كفيلة بدمقرطة أساليب الحكامة والتدبير والتسيير، تمكننا من التخلص من سلبيات الدكتاتورية والسلطوية وأساليب تحكمها وقهرها. وهو ما نسميه حاليا بالتنمية البشرية Développement humain وحكامتها التشاركية الديمقراطية؛ أي كيف سنتمكن عن طريق المقاربة التشاركية ومنهجية دينامية الجماعة، من تقوية القدرات والكفاءات واستراتيجيات الأسلوب الديمقراطي للتخلص من أسلوب الحكامة السلطوية و منهجيتها و كفاءاتها واستراتيجياتها التحكمية وسلبياتها؟
       إذن تدركون معي، كيف أن علم النفس الاجتماعي فيما يخص نظرياته الكبرى و قضاياه المجتمعية والعلمية الشاغلة ،ظل ملتزما بالأسس التنظيرية العلمية و المنهجية التجريبية كما حددتها المدرسة السلوكية ، من خلال الاحتكام إلى مرجعية التنظير و المنهج التجريبي و دراساته المختبرية أو الميدانية. و هذا ما جعل K.Lewin يعرف علم النفس الاجتماعي بعلم العلاقات الإنسانية : Science des Relations Humaines وأنا بصدد الحديث هنا عن أهم منظري براديغم علم النفس الاجتماعي النسقي Systémique ، لا يفوتني التذكير بأحد أهم أقطاب علم النفس الاجتماعي التجريبي، الذي اهتم بدوره بإحدى أهم القضايا الشاغلة مجتمعيا و علميا في ارتباطها بمخلفات الحرب العالمية الثانية، و هو الباحث النفسي الاجتماعي Milgram ، فيما يخص الخضوع لمنظومة السلطة و سيروراتها، بالنسبة لمصادر تعليماتها والخضوع لها ،بغض النظر عن أضرارها و مخلفاتها. متسائلا عن، ما الذي يجعل الإنسان العادي ينزع للخضوع بيكفية شبه عمياء إلى تعليمات مصادر السلطة الفعلية أو الرمزية، رغم نوعية الأضرار والأذى التي قد تحدثها بالآخرين، داخل المؤسسات و التنظيمات التي تتواجد داخلها .
          وبنفس الاهتمامات، و ضمن نفس سياق مخلفات الحرب العالمية الثانية في ارتباطها بالأنظمة الدكتاتورية التحكمية النازية منها والفاشية والستالينية، نجد كذلك Carl Rogers يتساءل عن دور و أهمية المنهجية التواصلية الديمقراطية المفتوحة، من خلال تنظيره و توظيفه لمنهجية المقابلة الغير موجهة بهدف تحرير الإنسان على المستوى الفردي والمؤسساتي والمجتمعي، من الأقنعة العالقة أو الملتصقة بشخصيته الفعلية "الأصيلة" غير المقنعة و غير المستترة معياريا، تحت أقنعة القيم والأدوار الثقافية والمؤسساتية المعيارية المحافظة. أي بتساؤل إبستمولوجي منهجي: ما العمل لتحرير الإنسان وهويته الأصيلة الأولية بمواصفات الحرية.. و الحرية.. والحرية. جاعلا من منهجية و مبدأ : أتركه يعبر... أتركه يعبر... أتركه يعبر، وسترى و سترى.. و سترى ما يفاجئك ويدهشك من سمات و مواصفات إنسانية أصيلة، باعتبارها جوهر سيكولوجية الإنسان الأصيل أي الإنسان الحر، أهم أسس نظريته و طروحاتها ، و منهجيته المفتوحة الأسلوب و الحوار و التعاقد.
         إذن ترون معي، كيف أن أقطاب علم النفس المعاصر، بمرجعياتهم البراديغماتية التنظيرية اهتموا بمجموعة من القضايا المجتمعية الشاغلة لإنتاج المعرفة العلمية المتخصصة حولها ،متبوعة بمجموعة من المناهج و التقنيات للتدخل عليها إما بهدف الحد من سلبياتها أو بهدف العمل على تفعيل الجوانب الإيجابية فيها والتدخل عليها لتحسين جودة الحياة الفردية منها و الجماعية و المؤسساتية. و هي كما ترون نفس القضايا الشاغلة الآن للمجتمع المغربي و لسيكولوجيته الفردية منها و الجماعية و التنظيماتية. بنفس الاهتمامات التنظيرية و الانشغالات المنهجية التدخلية العلاجية منها و الوقائية. و هو ما يجعلنا ندرك أهمية و دور علم النفس في تحرير "الإنسان المواطن" من سلبيات السلطة و أساليب حكامتها التحكمية، و من ثقل التنشئة الاجتماعية المعيارية و من أشكال التفاعلات الضاغطة ،المانعة لمختلف أشكال الفاعلية و المبادرة و المشاركة الفردية منها و الجماعية .
        و ندرك كذلك أهمية المناهج و التقنيات النفسية و النفسية الاجتماعية في - تكوين و تحرير الإنسان كما رأينا ذلك من خلال منهجية دينامية الجماعة و مقاربتها التشاركية مع Kurt Lewin ،و مع منهجية المقابلة غير الموجهة ل Carl Rogers باعتبارها منهجية و تقنية لتحرير الإنسان من المعيارية المجتمعية المؤسساتية ومن أساليب تنشئتها الاجتماعية المقننة و المنمطة لشخصيته الأصيلة منذ مرحلة الطفولة المبكرة، حتى يمتلك من جديد حرية الكلمة و التعبير،بشخصيته الأصيلة و بنزعته السيكولوجية إلى الحرية و المبادرة ، من خلال كفاءاته و تلقائيته و مبادراته و تفاعلاته "الإنسانية النزعة" والمكونات.لننتقل إلى إنسان الإبداع والمبادرة و إلى مجتمع الحرية و العلاقات الإنسانية الأصيلة.
    و هذا ما يجعلني دائما، أستحضر مع طلبتي أسس علم النفس العلمية و المهنية و المجتمعية بمرجعيتين متلازمتين:
1.     مرجعية المعاناة و الاختلالات و الاضطرابات النفسية الوجدانية منها و والعلائقية و السلوكية، و المتمثلةفي ظواهر الخصاص و الحرمان كما هو عليه الأمر مثلا بالنسبة للأطفال في وضعية صعبة، أو بالنسبة لظواهر و سلوكات العنف الأسري أو العنف في المدرسة أو في الجامعة أو في الملاعب كما عليه الأمر حاليا داخل المجتمع المغربي.
2.     و مرجعية المودة و الانسجام و كفاءات الحوار و التواصل و التفاوض و التعاقد،باعتبارها مرجعيات وكفاءات ملازمة للإنسان و لمختلف علاقاته و روابطه.و هو ما أصبحنا نصطلح على تسميته بمجتمع الديمقراطية و المواطنة ليس على مستوى الشعارات و الخطابات و إنما على مستوى الكفاءات و الممارسات و السلوكات. و هو ما أصبحنا نعاين حضوره باهتمام متزايد داخل المجتمع المغربي عبر مؤسساته الإدارية منها والمقاولاتية و السياسية و المدنية و التعليمية و الأسرية، لكون علم النفس كان دائما و لازال، يقوم في إحدى أسسه و دعائمه على الجمع بين مرجعياته التنظيرية و مناهجه و تقنياته التدخلية، فيما يخص القضايا الشاغلة للمجتمع و التي عنونتها في مداخلتي هذه بالقضايا الكبرى لعلم النفس بالمغرب.
            إذن ترون معي كيف أن علم النفس في أسسه العلمية و انشغالاته المجتمعية، انتظم بهاتين المرجعيتين التنظيرية البراديغماتية منها و المنهجية التقنية التدخلية و المهنية الممارساتية. بحيث نجد أن علم النفس - المعرفي على سبيل المثال ، ينظر للإنسان، و منذ ولادته بل و حتى قبل ذلك بشهور، بطروحات الكائن المعرفي ذو الكفاءات المتعددة و الفاعلية ،و بمنظور كائن المشروع . و هذا ما أصبحنا نعاينه بالملموس اليوم داخل المجتمع المغربي، باعتباره "مجتمع المشروع"، من خلال مشاريع أفراده و جماعاته و مؤسساته. و هو ما أصبح يشكل في نظري، كباحث في علم النفس الاجتماعي و من خلال طروحاتي المعرفية، تحولا نوعيا لسيكولوجية المجتمع المغربي و لسيكولوجية الإنسان المغربي كذلك، بمواصفات إنسان المشروع و القدرة على التخطيط و التوقع و الرغبة في إثبات الذات بفاعلية وشخصية إرادية.
          و هي المواصفات والسمات التي وجدتها حاضرة من خلال دراساتي الميدانية الجامعية، على مستوى الأسرة المغربية فيما يخص مشروع حياتها و كفاءات و استراتيجيات التخطيط و التوقع و الاختيار و اتخاذ القرار، و هي السمات و المواصفات النفسية و النفسية– الاجتماعية التي نجدها حاضرة كذلك داخل المدرسة و داخل الإدارة و  المقاولة الآن بالمغرب، بمستويات متفاوتة الحضور و الأجرأة. ولن أبالغ، و من خلال هذه المواصفات والخصائص المميزة اليوم للإنسان المغربي و لسيكولوجيته و كذلك سيكوسوسيولوجية المجتمع المغربي، بأن أدرجه ضمن مجتمعات العولمة و الثورة الرقمية ،التي نجدها الآن تكتسح كل من الأسرة و المدرسة و مختلف فضاءات و مجالات الحياة اليومية. تجعلنا، جميعها ،ندرك بأن المجتمع المغربي يتموقع اليوم بكيفية بنيوية داخل دينامية التغييرات الجذرية و البنيوية و مجتمعات الثورة الرقمية، التي ستفرز لنا لا محالة، ظواهر و علاقات و تفاعلات و سلوكات و طموحات و مشاريع، لم نألفها من قبل لدى الإنسان المغربي و جماعاته و تنظيماته .
           و هذا ما سيقربنا لا محالة من إعادة النظر في مسألة إصلاح منظومة التعليم ببلادنا، برؤية و بمشروع تربوي و مجتمعي مغاير تماما عن الرؤى و المقاربات، التي من خلالها تم وضع مشاريع الإصلاح و البرامج و المناهج لمنظومة التربية و التعليم ببلادنا منذ الاستقلال حتى الآن. كيف ذلك ؟ و لماذا؟
        إن إجابتي هنا و كما سبق و أن ذكرت ذلك في محاضرتي هذه، تقوم على مستجدات المعرفة العلمية في مجال علم النفس و سيكولوجية الطفل على الخصوص باعتباره العنصر الأساس لأي إصلاح تربوي تعليمي ببلادنا، مستحضرا في ذلك مواصفات الطفل المغربي سيكولوجيا في أبعاده و مكوناته السيكولوجية الأربعة السالفة الذكر" المعرفية منها والوجدانية والعلائقية و السلوكية" و باعتبار الطفل سيكولوجيا و كما رأينا يظل طفلا فاعلا، بمواصفات و مرجعيات الكفاءات و الذكاءات المتعددة، بمواصفات و مرجعيات التنظيم و التدبير الذاتي و المبادرة. مما يجعل منه طفلا كفؤا و مبدعا ومنصهرا من خلال مواصفاته و سماته السيكولوجية المرجعية كما تبرهن على ذلك مختلف الدراسات و الأبحاث العلمية منذ السبعينيات إلى اليوم.
        و حتى لا أطيل عليكم فيما يخص هذا الدرس الافتتاحي، لا يفوتني إلا أن أستحضر أهم الأفكار و الطروحات التي أطرت مداخلتي هذه، في مقدمتها: أهمية النظرة الشمولية النسقية في علم النفس، وأهمية موضوعه العلمي المتمثل في دراسة الإنسان سيكولوجيا في أبعاده الأساسية الأربعة المعرفية منها و الوجدانية والعلائقية و السلوكية، وأهمية استحضار براديغماته التنظيرية الأربعة المؤسسة لعلميته منذ المدرسة السلوكية حتى المدرسة المعرفية حاليا؛ و مستحضرا كذلك ما وصلت إليه شعبتنا الفتية على مستوى التخصص والتأطير و التكوين العلمي و المهني، من خلال تأطيرها حاليا لثلاث تخصصات مستقلة في ماستر علم النفس، بداية بماستر علم النفس الإكلينيكي و المرضي و علم النفس الاجتماعي و علم النفس الشغل. و هذا يعني ماذا؟ يعني أن علم النفس بالجامعة المغربية قد ابتعد نهائيا عن مهام التدريس وشواهده الجامعية، لينتظم اليوم بمرجعية و مواصفات التأهيل العلمي و المهني و الممارساتي، كما هو عليه الأمر داخل أعرق الجامعات دوليا فيما يخص شعبة علم النفس. دون أن يفوتني التذكير من جديد بأصول علم النفس العلمية والمهنية ،التي ارتبطت وكما رأينا ذلك، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بالقضايا الكبرى للمجتمع الإنساني، لينتج حولها معارف علمية وممارسات مهنية متخصصة تستجيب لحاجيات المجتمع و طلباته المؤسساتية و الجماعية و الفردية،والتي لازمت علم النفس حتى اليوم . مستحضرا كذلك أهمية مجموعات و مختبرات البحث العلمي الجامعي و تكويناته الفارقية المتخصصة و ممارساتها المهنية. و هو ما ظلت شعبة علم النفس في المغرب تفتقد إليه زمنا ليس باليسير لارتباطها العضوي، عند نشأتها، بشعبة الفلسفة و مهامها التدريسية أساسا.
          و هو ما جعل من علم النفس الحلقة و التخصص الأضعف داخل حقل العلوم الإنسانية و الاجتماعية بالجامعة المغربية، مقارنة الأنتروبولوجيا و علم الاجتماع و التاريخ و الجغرافيا و اللسانيات و غيرها... لنجده و مع نهاية القرن العشرين يتبوأ، مجتمعيا و إعلاميا و جامعيا، المكانة اللائقة به علميا و ممارسة ، مواكبا في ذلك التحولات التي عرفها المجتمع المغربي و تنظيماته المرجعية و مستجدات تطلعات و مشاريع و معاناة الإنسان المغربي في أبعاده السيكولوجية الأربعة السالفة الذكر.
و في الختام أشكركم من جديد على حضوركم و حسن إنصاتكم
و السلام
الخميس 23 أكتوبر 2014



هل أعجبك الموضوع ؟

Aucun commentaire:

Formulaire de contact

Nom

E-mail *

Message *

موقع علم النفس المغرب للدكتور عبد الرحيم عمران