تتعدد
الاهتمامات والتخصصات في مجالات التربية والنمو النفسي للطفل، نظرا لتعدد العوامل
والمحددات الفاعلة في كل منهما. وهذا ما يجعل بعض المقاربات تركز اهتماماتها ودراساتها
على: أشكال ومعايير التعلم
والتلقين المؤسسي مثلا، والبعض الآخر على: ميكانزمات ومسار الاكتسابات المعرفية عند الطفل حسب مؤهلاته وكفاءاته المعرفية. موظفة في ذلك النظريات والمناهج والتقنيات الملائمة، حسب طبيعة التكوين والتخصص، والهدف الذي ترمي إليه من: 1- بحث ومعرفة أو 2- تدخل وتطبيقات.
والتلقين المؤسسي مثلا، والبعض الآخر على: ميكانزمات ومسار الاكتسابات المعرفية عند الطفل حسب مؤهلاته وكفاءاته المعرفية. موظفة في ذلك النظريات والمناهج والتقنيات الملائمة، حسب طبيعة التكوين والتخصص، والهدف الذي ترمي إليه من: 1- بحث ومعرفة أو 2- تدخل وتطبيقات.
ومن
منطلق مقاربة واهتمامات سيكولوجية، تأتي هذه المساهمة الهادفة إلى تسليط بعض
الأضواء، وفتح باب النقاش –من خلال مجموعة من التساؤلات والطروحات- وبالتالي إثارة
أرضية ممكنة للبحث العلمي، حول بعض جوانب وميكانزمات نشاط وفعالية الطفل، وعن مدى
أهميتها داخل حقل التربية بصفة عامة، والمرحلة ما قبل المدرسية على الخصوص، ونقصد
بذلك سلوك "المبادرة" عند الطفل: كخاصية مميزة لنشاطه وشخصيته خلال هذه
المرحلة.
سلوك "المبادرة: L’initiative" كخاصية مميزة لنشاط الطفل
خلال هذه الفترة:
-
من أهم السمات السيكولوجية المميزة لنشاط الطفل وسلوكه
خلال هذه الفترة:
سلوك
"المبادرة: L’initiative":
وهي خاصية تشير إلى كون نشاطه يظل مؤطرا –وإلى حد كبير- بمكوناته وحوافزه الذاتية،
سواء على مستوى التعلم Apprentissage
أو الاكتسابات الشخصية Acquisitions
personnelles. وهو ما يؤهله ويجعله بالتالي أقل خضوعا وتبعية للمعايير والضوابط
الخارجية.
وللتقريب
بين الملاحظات السيكولوجية العامية المتداولة، والمقيمة لسلوك الأطفال في هذه
المرحلة، والسيكولوجية العلمية وتحليلاتها، فلا بأس من الإشارة إلى أننا –في
المغرب مثلا- عادة كما نميل إلى وصف "الأطفال" في هذا السن: (ما ربين 3
و 7 سنوات) بأنهم "شياطين" أو "يبالس"، أي أن سلوكهم يتميز
بنوع من الفاعلية التي تتميز بالابتعاد عن: معيارية وضوابط التنشئة الاجتماعية،
وبالتالي بسيادة الأنشطة والتوجهات المفاجئة لنا والغير متوقعة، وهو ما يعكس في دلالته
نشاط "المبادرة" كخاصية مميزة لشخصيتهم خلال هذه الفترة، نميل إلى الحكم
عليها ثقافيا ووصفها بكونها "لا معيارية": (شياطين- يبالس ...).
إن
"المبادرة" هو نشاط تقريري،Conduite
décisionnelle ، وهو ما يعني الامكانية والقدرة على الاختيار
والتقرير الذاتي، على عكس سلوك التبعية Dépendance، القائم أساسا على المحاكاة والإتكالية والعادات
المتعلمة من خلال إثباتات وتدعيمات خارجية.
إننا
عندما نتحدث عن "المؤسسات" الاجتماعية، وخاصة التربوية، فإننا –ولو
ضمنيا- نتحدث عن: مواقف، اتجاهات، توجيهات وممارسات معيارية، مؤطرة وموجهة لسلوك
ونشاط الطفل، في حين عندما نتحدث عن حوافز الطفل وعن مؤهلاته ورغباته ... إلخ،
فإننا نشير إلى المكونات الذاتية: بإيقاعاتها وتوازناتها وسيروراتها، والتي يحملها
الطفل معه –وبالتالي الكائن البشري- كاستعدادات ومؤهلات أولية مميزة لنشاطه.
فماهي
إذن العلاقة القائمة بين:
1-
مكونات الطفل: أي مؤهلاته وكفاءاته، حوافزه ورغباته، ميولاته
ومتعته ...، وبين
2- مصادر التلقين والتعليم الخارجية؟
هل
هناك علاقة تجاوبية –تكاملية بينهما؟ أم علاقة تقنينية معيارية؟. أي بالنسبة
لموضوع اهتمامنا، فإن السؤال المطروح يبقى:
ماهي
مستويات التباعد والتقارب الحاصلة في مجالات التنشئة الاجتماعية بين:
1-
سلوك "المبادرة" كخاصية مميزة لنشاط وفاعلية
الطفل
و
2- معايير التلقين والتعليم السائدة والمبرمجة على المستوى المؤسساتي؟
إن
الحديث عن "مهام" المدرسة ووظائفها التربوية، عادة ما يقصد به وبالدرجة
الأولى: نشاط "التعلم" و "التلقين" المؤسساتي وبالتالي ظروف
ومعايير التنشئة الاجتماعية الموظفة والسائدة في المجال التربوي. وهنا تكمن إحدى
مصادر الخلط والمفارقة القائمة-في نظرنا- بين منطلقات وتمثلات التنشئة الاجتماعية
ومعاييرها، وبين مؤهلات الطفل وسمات شخصيته، وهو الخلط الذي نجده واردا كذلك على
مستوى: مفهوم ومحتوى كل من: مراحل التمدرس ومراحل النمو عند الطفل، لدى بعض
الباحثين الاجتماعيين والسيكولوجيين المغاربة.
سلوك
"المبادرة" والفضاء التربوي:
إن
سلوك "المبادرة" هو سلوك التلقائية والتوجيه الذاتي Auto-orientation ، العامل وراء أنشطة الاكتسابات
المعرفية Acquisitions
cognitives في مجال
"التعلم"؛ وهو ما يقتضي وجود "فضاء" معرفي-تربوي لين غير مهيكل
كلِّية ومنظم بصورة حادة، ومبرمج بكيفية مغلقة.
إن
"المبادرة" كسيرورة سلوكية تحتاج –للتعبير عن نفسها بطريقة إيجابية- إلى
فضاء وأنشطة غير مغلقة و غير مهيكلة بكيفية صارمة. فالمبادرة –وكما أشرنا- هو نشاط
ذاتي، تقريري، وبالتالي اختياري، موجه ونابع أساسا من المجال الداخلي الشخصي، وهو
ما يفترض: غياب تأطير وبرمجة صارمة على مستوى الأنشطة المقترحة والمتداولة، بكيفية
تساير إيقاعات les rythmes
الطفل ومؤهلاته البيو-نفسية، أي التكوينية. وهذا ما يقودنا إلى صياغة الافتراض الإجرائي
التالي، والذهاب إلى أن الأطفال يُبدون نزعة أكبر إلى المبادرة وإثبات الذات داخل
الفضاءات التربوية المفتوحة، منه داخل الفضاءات التربوية المغلقة.
وانطلاقا
من هذه العناصر والتحديدات الأولية، تأتي في نظرنا- بالنسبة للفضاء المؤسساتي الذي
يتحرك داخله الطفل ويتعامل معه على المستوى التربوي- أهمية المرافق والمجالات
المفتوحة، والأسندة المثيرة لحافزية الطفل ورغباته، وبالتالي لنشاطه؛ وهو ما يفترض
تجنبا لكل برمجة وتوجيه مغلق المسالك، القائم ""على "ثوابت"
سلوكية ومعيارية؛ ضابطة ومقننة لما ينبغي أن يقوم به الطفل من أنشطة وتعلم داخل
الزمان والمكان، لكون سلوك المبادرة، وما نسميه كذلك بأنشطة التجديد والإبداع،
يشترط وجود فضاء مفتوح، وأنشطة قابلة للصياغة الذاتية، وبرمجة هادفة تنطلق من
مكونات الطفل وإيقاعاته، تثير حافزيته وقدرته على تشييد وتجدير مجالات أنشطته،
وتجعله بالتالي أقل ما يمكن تبعية للمجال الخارجي.
ومن
هنا تأتي أهمية هذا التساؤل والاستفسار المعرفي المفتوح –(والكثير منا، باحثين
وأخصائيين، يهتم بأنشطة ومكونات الفضاء التربوي –المعاصر منه والأصيل)- حول
مستويات التباعد والتقارب الحاصلة في مجال التربية ما قبل المدرسية:
1-
بين سلوك المبادرة لدى الطفل
و
2- بين معايير وممارسات التعليم والتلقين السائدة والمبرمجة على المستوى المؤسساتي
بالمغرب؟
هل
تشكل المعايير والممارسات التربوية السائدة مؤسساتيا بالمغرب: ترجمة وتناظرا
للمعايير والمؤهلات الذاتية –التكوينية للطفل؟ أم مجرد أرضية مرجعية للتعلم
والتلقين، وبالتالي للتأقلم والتكيف والاندماج الاجتماعي للطفل، وفق تمثلات
ومعايير التنشئة الاجتماعية؟ وهو ما من شأنه أن يكرس ويدعم سمات وسلوك
"التبعية" للمجال: la
dépendance à l’égard du champ لدى الطفل ويحد من نشاط وسلوك
المبادرة لديه.
البيداغوجية
الحديثة وحقوق الطفل:
لقد
كثر الحديث في العشر سنوات الأخيرة بالمغرب عن "البيداغوجية الحديثة"،
وتلاه أخيرا الحديث عن "حقوق الطفل". وتجنبا لبعض الخلط والتضارب الحاصل
في الأذهان، على مستوى دلالة ومحتوى "مفهوم" البيداغوجية الحديثة"
لا بأس أن نشير إلى أن هذا المفهوم –وداخل ما يعرف بحقوق الطفل- قد أصبح يعرف
ويقاس حاليا بمدى تلاءم وتناغم الإيقاع المؤسساتي وبرامجه مع الإيقاع البيو-تكويني
للطفل ومؤهلاته، وليس العكس. وهذا ما نعاينه في الكثير من الدول لمتقدمة، استنادا
إلى حصيلة من الدراسات والأبحاث العلمية والتي وظفتها في هذا المجال.
إن
الدراسات البيو-سيكولوجية والايطولوجية المعاصرة حول: إيقاعات الطفل التكوينية H.Montagner, 1983) Les rythmes de l’enfant)، ومتن أنشطته النفسية
(C.
Beugnet -Lambert et al, 1988) sa Chronopsychologie ونموه التلقائي خلال هذه المرحلة
المبكرة: (R.E. Tremblay et al, 1985)، تبين لنا مثلا، بأن مؤهلات الطفل
المعرفية وكفاءاته على مستوى التعلم والاستيعاب والتذكر والنشاط الحيوي (le
tonus)، تبقى في علاقة وطيدة مع
إيقاعاته البيو-تكوينية، والتي تعرف تغيرات في الحدة والفتور خلال فترات
النهار المختلفة؛ وبكونها تبقى كذلك مؤطرة ومتأثرة إلى حد كبير "ببنية النوم la structure du sommeil" ووظائفها: الوجدانية
والمعرفية والجسمية ... وهكذا.
وبالتالي
فإن احترام "حقوق الطفل" تعني في إحدى دعائمها مِحَكَّاتِها: احترام
إيقاعاته التكوينية ومؤهلاتها وحاجياته، وإيجاد المناخ الثقافي-الاجتماعي-التربوي،
الملائم لنموها وتوظيفها توظيفا إيجابيا. وهذا البُعْد يفترض بدوره وجود معرفة
علمية حول نسق ووتيرة سير وتطور هذه الإيقاعات والمؤهلات، للتدخل إيجابيا على هذا
المستوى، وللحد من سلبيات المعايير والممارسات الثقافية-المؤسساتية.
إن
ما يؤخذ في الغالب على التربية-التقليدية، هو كونها تظل في الكثير من معاييرها مِحَكَّاتِها،
مبرمجة بكيفية مرجعية ثابتة وصارمة لما يجب أن يتلقنه ويتعلمه الطفل، وبكونها تجهل
الكثير عن خصائص وحاجيات ومؤهلات الطفل التكوينية، وذلك لعدم الإلمام بها من جهة،
ولتمثلاتها "لشخصية" الطفل من جهة أخرى، بناءا على رؤية مؤسساتية-ثقافية
سائدة، قوامها في الغالب: "التلقين" و "التقويم" من خلال
أرضية، ونموذج "الراشد" كمآلية وهدف.
إن
الطفل، وفي حدود كفاءاته، -وكما أشار إلى ذلك عن حق، رائد ومؤسس المدرسة السلوكية
واطسن Watson من وجهة نظره الامبريقية –يمكنه
أن يتعلم أي شيء، وبالتالي أن يتشكل اجتماعيا بالكيفية التي نريد، وذلك نتيجة
"لليونة" مؤهلاته التكوينية وقدرتها على التوافق والتأقلم مع معطيات
وخصائص وضغوط العالم الخارجي؛ لكن السؤال المطروح يبقى: ما هو "الثمن"
الذي يؤديه الطفل، انطلاقا من أن هذا التشكيل الخارجي يتم على حساب مكونات ومؤهلات
أساسية يولد مزودا بها على مستوى النشاط والفاعلية الذاتية من تلقائية ومبادرة
والميل إلى الاكتساب المعرفي الذاتي حسب حوافزه ورغباته وحب استطلاعه ومتعته
الذاتية ... إلخ.
إن
كبح هذه المؤهلات و الميولات التكوينية، لا تعني زوالها وإنما تهميشها وبالتالي
تعطيلها على أداء مهامها، الشيء الذي تكون لها انعكاسات سلبية لا على المستوى
الفردي فحسب وإنما كذلك على المستوى الاجتماعي؛ فمجتمع ينعدم أو يقل فيه سلوك "المبادرة" و الاكتسابات
والاستثمارات المعرفية الذاتية، وحرية الاختيار والقدرة على البرمجة الذاتية واتخاذ القرار والمثابرة ... إلخ، لا
يمكن بأي حال من الأحوال أن نطمئن على مساره الاجتماعي والاقتصادي.
المراجع
- BEUGNET-LAMBERT C., LANCRY A ., LECONTE P. (1988) – Chronopsychologie. Lille, PUL.
- MONTAGNER H. (1983).- Les rythmes de l’enfant et de l’adolescent. Paris. Stocks, L. Pernoud.
- OSTERRIETH P ., et al. (1956) – Le problème des stades en psychologie de l’enfant. Paris, PUF.
- TREMBLIY R.E., PROVOST M.A., STRAYER F.F. (1985) – Ethologie et développement de l’enfant. Paris, Stock, L. Pernoud.
- ZAZZO R. (1983) – Où en est la psychologie de l’enfant ?. Paris, Deniel / Gonthier.
عبد الرحيم عمران
أبريل 1996
هل أعجبك الموضوع ؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire